فصل: القَوْل فِي ذكر الْوُجُوه الَّتِي يَقع عَلَيْهَا أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي ذكر الْوُجُوه الَّتِي يَقع عَلَيْهَا أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

إِذا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل مُطلق، وَلم يعلم بطرِيق من الطّرق أَنه أَرَادَ بِفِعْلِهِ تَبْيِين مُجمل، أوتنبيها على حكم شَرْعِي، فَالْحكم فِيهِ مَا قدمْنَاهُ من الْوَقْف، فَأَما إِذا صدر مِنْهُ الْفِعْل بَيَانا لحكم على الِابْتِدَاء، اَوْ تَخْصِيصًا لعُمُوم أوتبيينا لمجمل فَيجب التَّمَسُّك بِهِ.
وَنحن الْآن نجمع الطّرق الَّتِي إِذا وَقعت الْأفعال عَلَيْهَا كَانَت بَيَانا، فأقوى الْوُجُوه فِي وَقع الْأفعال بَيَانا وَاجِب الْإِيقَاع فِيهَا وَجْهَان: أَن يُصَرح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَمر بالاتباع فِيمَا يصدر مِنْهُ من الْأفعال وَذَلِكَ نَحْو قَوْله: «صلوا كَمَا أيتموني اصلي».
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يجمع الْعلمَاء على أَن الْمَقْصد من الْفِعْل الصَّادِر مِنْهُ بَيَان، فَيعلم أَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد بَاطِلا، وَلَيْسَ علينا تتبع مَا انْعَقَد الْإِجْمَاع مِنْهُ.
وَمن الطّرق فِي وُقُوع الْفِعْل بَيَانا أَن يثبت ويستقر على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أمته حكم، ثمَّ يصدر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل يُخَالف ذَلِك الحكم وَيعلم أَنه لَيْسَ بساه ويتحقق عندنَا أَنه لَيْسَ بِمحرم، وَأما على منع الصَّغَائِر أَو بِأَن يتَحَقَّق بقرائن الْحَال ذَلِك، فَإِذا ثَبت الْفِعْل على هَذَا الْوَجْه فيتبين لنا أَن الحكم قد نسخ فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن لَا يتَبَيَّن نسخ الحكم فِي حَقنا بِمُجَرَّد صُدُور الْفِعْل مِنْهُ حَتَّى يتَبَيَّن لنا ذَلِك بِأحد أَمريْن، إِمَّا بالْقَوْل، وَإِمَّا أَن يصدر منا مثل مَا صدر مِنْهُ فيقررنا عَلَيْهِ، فيتبين حِينَئِذٍ النّسخ فِي حَقه وَفِي حق من قَرَّرَهُ على مثل فعله.
وَمن الْوُجُوه فِي الْبَيَان أَن ترد لَفْظَة عَامَّة مُتَعَلقَة فِي مقتضاها بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِغَيْرِهِ، ثمَّ يبدر مِنْهُ فعل كَمَا نعتناه وَظَاهر الْعُمُوم لَا يَقْتَضِيهِ فيتبين لنا تَخْصِيص الْعُمُوم وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا}.
فَهَذَا عَام فِي كل من ينْطَلق اسْم السَّارِق عَلَيْهِ، فَإِذا رَأينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقطع فِيمَا دون الرّبع دِينَار، مَعَ صُدُور الْفِعْل عَنهُ على غير وَجه النسْيَان، فنعلم أَن ذَلِك غير دَاخل تَحت قَضِيَّة اللَّفْظ، وَإِذا رَأَيْنَاهُ لَا يقطع فِي الثَّمر والكنز فَكَذَلِك.
وَلَو تقدم لفظ مُجمل مثل قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} ثمَّ أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحَصاد قدرا فَلَا نعلم أَن فعله بَيَانا لقَوْله سُبْحَانَهُ: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَإنَّا نجوز أَن يكون هَذَا الْفِعْل ثَابتا عَن قَضِيَّة أَمر آخر، ونجوز أَن يكون الْمَأْخُوذ غير الْمَنْطُوق بِهِ مُجملا فِي الْآيَة، فَلَا نقطع القَوْل بِأَن فعله بَيَان فِي هَذِه الصُّورَة حَتَّى ينبهنا عَلَيْهِ بطرِيق من طرق التَّنْبِيه، وَقد يتَصَوَّر أَن يَجْعَل فعله فِي مثل هَذِه الصُّورَة الَّتِي قدمناها بَيَانا، وَذَلِكَ نَحْو مثل أَن يفعل مَا صورناه ويخترم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ونعلم أَنه لَا يخترم مَعَ بَقَاء الالتباس فِي اللَّفْظَة المجملة فأظهر الْأَحْوَال كَون فعله بَيَانا، فقد أَجمعت الْأمة على حمل فعله على الْبَيَان فِي مثل هَذِه الصُّورَة، فتتبعنا الْإِجْمَاع وألحقنا ذَلِك بِمَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْبَاب، وَلَوْلَا الْإِجْمَاع، فَلَو رددنا إِلَى تَحْقِيق الْبَيَان لما جَعَلْنَاهُ بَيَانا مَعَ مَا فِيهِ من الِاحْتِمَال بيد أَن الْإِجْمَاع يحسم الِاحْتِمَال.
وَمن طرق الْبَيَان أَن بتمهد لنا فِي أصُول الشَّرِيعَة أَن يُكَرر فعلا من الْأفعال فِي بعض الْعِبَادَات على قصد الشَّرْع بِمَا يبطل الْعِبَادَة، فَإِذا كرر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سبق من تمهيد الأَصْل مَا أومأنا إِلَيْهِ فنعلم أَن مَا كَرَّرَه شَرط الصِّحَّة فِي تِلْكَ الْعِبَادَة، وَبَيَان ذَلِك أَنه ثَبت فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من ركع فِي رَكْعَة وَاحِدَة ركوعين بطلت صلَاته، ثمَّ رَآهُ يرْكَع ركوعين فِي صَلَاة الخسوف، فَعَلمُوا من ذَلِك أَنه مَشْرُوط فِي صِحَة صَلَاة الْكُسُوف.

.فصل:

اتّفق الأصوليون على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قرر إنْسَانا على فعل فتقريره إِيَّاه يدل على أَنه غير مَحْظُور، وَلَو كَانَ مَحْظُورًا لأنكره، ثمَّ لَا يُمكن بعد ذَلِك قطع القَوْل بِكَوْنِهِ مُبَاحا أَو وَاجِبا أوندبا بل تَجْتَمِع فِيهِ هَذِه الِاحْتِمَالَات، وَلَا يتَبَيَّن من التَّقْرِير الْمُطلق إِلَّا نفي الْحَظْر، ثمَّ انْتِفَاء الْحَظْر يتخصص بِمن قَرَّرَهُ وَلَا نقُول أَن ذَلِك يعم فِي كَافَّة الْمُكَلّفين، فَإِن التَّقْرِير لَهُ صِيغَة تعم وتشمل جملَة الْمُكَلّفين، وَلَو كَانَ قد صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنْكَار، وتنصيص على تَحْرِيم فِي ضروب من الْفِعْل ثمَّ قرر عَلَيْهِ أحدا فتقريره ينبىء عَن نفي التَّحْرِيم وارتفاعه فِي حق من قَرَّرَهُ، وَلكنه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره كَمَا قدمْنَاهُ إِلَّا أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع على أَن التَّحْرِيم إِذا ارْتَفع فِي حق وَاحِد فقد ارْتَفع فِي حق الكافة بِأَن يعلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الْإِجْمَاع أَن هَذَا الحكم فِي ثُبُوته ونفيه يعمكم وَلَا يتخصص بِوَاحِد منم، فَإِذا قرر مَعَ ذَلِك وَاحِدًا على مثل الْفِعْل الَّذِي حرمه فَيَقَع هَذَا التَّقْرِير بَيَانا فِي رفع الحكم ونسخه فِي حق الكافة.
وَمن طَرِيق الْبَيَان أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بَيَان مُجمل، فيعقب السُّؤَال بِفعل يقْتَرن بِهِ من الْقَرَائِن مَا يضْطَر إِلَى انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رام جَوَاب السَّائِل بِفِعْلِهِ فَهَذَا يَقع بَيَانا لَا محَالة وبتنزيل لَا محَالة فعله منزلَة القَوْل.

.فصل:

إِذا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل وَاقع موقع الْبَيَان كَمَا قدمْنَاهُ فِي مَكَان أَو زمَان فَلَا يتَقَيَّد مُوجب الْبَيَان بِالْمَكَانِ وَلَا بِالزَّمَانِ عِنْد كَافَّة الْمُحَقِّقين وَذهب شرذمة من المنتمين إِلَى الْأُصُول إِلَى أَن الْفِعْل الْوَاقِع موقع الْبَيَان يتخصص بِالْمَكَانِ وَلَا يتخصص بِالزَّمَانِ. وَأبْعد بَعضهم فَقَالَ: يتخصص بِالزَّمَانِ ايضا فَيُقَال لهَؤُلَاء لَا خلاف أَن القَوْل الصَّادِر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتضمن تَبْيِين الحكم لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الِامْتِثَال بِالْمَكَانِ الَّذِي صدر القَوْل فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا وَقع الْفِعْل موقع الْبَيَان فِي تَحْقِيق نسخ أَو تَخْصِيص، اَوْ جَوَاب سُؤال، وَهُوَ فِي الإنباء عَن الحكم نَازل منزلَة القَوْل.
فَإِن قيل: الْفِعْل متخصص بِالْمَكَانِ؟
قُلْنَا: فَيلْزم مثل ذَلِك فِي القَوْل، على أَنا لَو رددنا إِلَى نفس الْفِعْل لما فهمنا مِنْهُ اقْتِضَاء حكم وَإِنَّمَا الْمُقْتَضى للْحكم وُقُوعه على وَجه الْبَيَان، وَهُوَ مِمَّا لَا ينعَت بالتخصيص بِالْمَكَانِ، وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ إِنَّا نعلم اضطررا أَن من قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين لي التوضىء فَتَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يعقل السَّائِل أَن يُوقع الْوضُوء فِي الْمَكَان الَّذِي تَوَضَّأ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن أنكر ذَلِك فِي التخاطب ومجاري كَلَام الْبَيَان قطع الْكَلَام عَنهُ.
ثمَّ نقُول: الْأَمَاكِن والأزمان مِمَّا لَا يدْخل تَحت مقدورات الْمُكَلّفين، وَإِذا ورد فعل وَاقع موقع الْبَيَان مُطلقًا فَيحمل على اقْتِضَاء مَا يدْخل تَحت الْمَقْدُور، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو فعل فعلا فِي تغيم السَّمَاء أَو إصحائها، أَو فعل وَزيد قَائِم، فَلَا يتخصص الجري على مُقْتَضى الْفِعْل بِمَا قَارن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَسْبَاب وفَاقا، فَإِن أَشْيَاء مِمَّا أومأنا إِلَيْهِ لَا تدخل تَحت قبيل المقدورات.
ثمَّ نقُول للقائل بتخصيص الْأَزْمِنَة هَذَا الَّذِي ذكرته تنَاقض فَإِنَّهُ لَا يتَحَقَّق العثور على الْمَقْصُود من الْفِعْل لَا بعد الْفَرَاغ مِنْهُ فقد انْقَضى وقته الْمُقَارن لَهُ فَكيف يتَحَقَّق وُقُوع الِامْتِثَال فِي وَقت الْفِعْل، فَإِن قيل: فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، قُلْنَا: فَقولُوا يُوقع الْفِعْل فِي مثل ذَلِك الْمَكَان على أَن الْأَوْقَات كلهَا تؤول إِلَى حركات الْفلك، وَهِي مُخْتَلفَة لَا يتَحَقَّق التَّمَاثُل فِيهَا، وَإِن تحقق لَا يَتَقَرَّر التَّمَكُّن من تمكن تماثلها، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

.فصل:

اعْلَم أَنه يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْيِين مَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الشَّرَائِع وَلَا يجوز لَهُ الْإِخْلَال بِمَا كلف من الْبَيَان، وكما يجب عَلَيْهِ تَبْيِين الْوَاجِبَات والمفترضات فَكَذَلِك يجب تَبْيِين الْمُبَاحَات والمندوبات، والمحظورات، وتمهيد السَّبِيل إِلَى دَرك أَحْكَام الوقائع الَّتِي لَا تنضبط بِنصب الأمارات، والتفسح للمكلفين فِي طرق الِاعْتِبَار.
وَقد نقل بعض الْمُتَكَلِّمين أَنه قَالَ: مَا كَانَ وَاجِبا وَجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانه، وَمَا كَانَ مَنْدُوبًا كَانَ بَيَانه فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْدُوبًا، وَمَا كَانَ مُبَاحا كَانَ بَيَانه مُبَاحا.
وَهَذَا مَذْهَب أطلق حكايته، وَلم ينْسب إِلَى أحد من أهل الْمذَاهب، وَهُوَ تَصْرِيح بخرق الْإِجْمَاع من وَجْهَيْن اثْنَيْنِ، أَحدهمَا أَن الْأمة أَجمعت أَنه وَجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْيِين أَحْكَام الشَّرِيعَة، ثمَّ أَجمعُوا على أَن الشَّرِيعَة لَا تَنْحَصِر فِي الْوَاجِبَات وَلَكِن مِنْهَا: الْإِبَاحَة، وَمِنْهَا النّدب، فَإِن زعمتم أَن الْوَاجِب تَبْيِين الْوَاجِبَات فقد خرقتم الْإِجْمَاع.
وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقَوي ذَلِك أَن الْمُكَلّفين لَو لم ينبهوا على مَا يحل لَهُم من مكاسبهم ومطالبهم مَا يتعيشون بِهِ أفْضى ذَلِك إِلَى انْقِطَاع الخليقة عَن أَسبَاب المعاش، فقد أجمع الْمُسلمُونَ فِي الْعَصْر الخالية على وجوب الْإِرْشَاد على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذِه الْحَالة.
فَإِن قيل: فَإِذا بَين الْمَحْظُورَات فقد تبين أَن مَا عد هَذَا مُبَاح؟
قُلْنَا: فقد صرحتم أَن تَبْيِين الْمُبَاح حتم من الْوَجْه الَّذِي ذكرتموه، وَبَطل قَوْلكُم أَن تَبْيِين الْمُبَاح مُبَاح، على أَن فِيمَا عدا الْمَحْظُورَات فَردا ينْدب الْمُكَلّفين إِلَيْهَا وَلَا تتصف بِالْإِبَاحَةِ فَلَا يَصح إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَا عدا الْمَحْظُورَات مُبَاح، فَبَطل ذَلِك جملَة وتفصيلا.
فَإِن قيل: فَإِذا أوجبتم على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان النَّوَافِل وَالسّنَن فَلَو بَينهَا بِفِعْلِهِ وَجب أَن تحكموا بِأَن فعله يَقع وَاجِبا.
قُلْنَا: هَذَا مقصودنا بِعقد هَذَا الْفَصْل وَهُوَ مَا نقُول بِهِ مَعَ كَافَّة الْمُحَقِّقين. فَيجب عَلَيْهِ الْبَيَان باحد وَجْهَيْن، إِمَّا بالْقَوْل، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ، فَإِذا آثر التَّبْيِين بِالْفِعْلِ وَقع الْفِعْل بَيَانا وَاجِبا وَإِن كَانَ لَوْلَا قصد الْبَيَان لَكَانَ ذَلِك الْفِعْل تَطَوّعا فِي حَقه وَهَذَا كَمَا أَن من لَزِمته كَفَّارَة الْيَمين يتَخَيَّر من خلال ثلَاثه، ثمَّ مَا يصدر عَنهُ مِنْهَا على قصد التَّكْفِير يَقع وَاجِبا، فأحط علما بذلك.

.القَوْل فِي تعَارض الْأفعال بَعْضهَا مَعَ بعض، وتعارض الْأفعال مَعَ الْأَقْوَال:

اعْلَم، وفقك الله، أَن التَّعَارُض بَين القوليين إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا تنافت مقتضياتهما فِي كل الْوُجُوه، بِأَن يتعلقا بحكمين متنافيين فِي شخص وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة على وَجه يَسْتَحِيل فِي الْمَعْقُول تَقْدِير ثبوتهما جمعا وَلَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي خبرين مُتَعَلقين بحكمين فِي شَخْصَيْنِ، أَو شخص وَاحِد فِي وَقْتَيْنِ وحالين.
فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ فِي تعَارض العمومين إنَّهُمَا إِذا تقابلا وَأمكن حملهما على وَجه يجمع فِيهِ بَينهمَا فهما متعارضين.
قُلْنَا: إِنَّمَا ذَلِك لِأَن الْوَجْه الَّذِي نقدره لَيْسَ بِأولى من وَجه يُقَابله وَلم يدل على ذَلِك الْوَجْه دَلِيل يرشدنا إِلَيْهِ، فتوقفنا على قَضِيَّة الدَّلِيل، وَلَيْسَ هَذَا من التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ فاعلمه، وَلكنه يجوز تَقْدِير التَّعَارُض فِيهِ وَيجوز تَقْدِير حملهَا على وَجه يستعملان فِيهِ غير أَنا لم نجد معتصما فِي ذَلِك توقفنا على تتبع الْأَدِلَّة، فَهَذَا إِذا توقف منان وَلَيْسَ يقطع على التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا التَّعَارُض الْحَقِيقِيّ الَّذِي يقطع بِهِ فِي لفظين نصين فِي حكمين متنافيين على وَجه يَسْتَحِيل الْجمع بَينهمَا.
ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نجوز وُرُود مثل ذَلِك فِي الشَّرْع من غير تَقْدِيم وَتَأْخِير، وناسخ ومنسوخ، فَإِن تَجْوِيز ذَلِك إفصاح بتجويز تَكْلِيف الْمحَال، وَنحن نعتد هَذِه الْأَبْوَاب على منع ذَلِك، فَإِذا اتَّصَلت بِنَا كَمَا نعتناها فَعلم أَن أَحدهمَا نَاسخ وَالثَّانِي مَنْسُوخ، وَإِن نقل آحادا فنعلم إِمَّا النّسخ، وَإِمَّا وُقُوع الْغَلَط فِي أَحدهمَا وَلَا يتَعَيَّن الْعلم بِوَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدلَالَة عَلَيْهِ.
فَإذْ عرفت ذَلِك رَجعْنَا إِلَى مقصودنا فِي الْأفعال، فَأَما الْأفعال الْمُطلقَة الَّتِي لم تقع موقع الْبَيَان من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي الَّتِي نتوقف فِيهَا فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا تعَارض، وَلِأَن الْأفعال لَا صِيغ لَهَا، فَلَا يتَصَوَّر تعَارض الذوات، وَالْأفعال المتغايرة الْوَاقِعَة فِي الْأَوْقَات وَلم تقع موقع الْبَيَان، فَيَنْصَرِف التَّعَارُض إِلَى مُوجبَات الْأَحْكَام، وَأما الْأفعال الْوَاقِعَة موقع الْبَيَان فَإِذا اخْتلف وَاقْتضى كل فعل بَيَان حكم يُخَالف مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْل الآخر، وتنافيا على الْوَجْه الَّذِي صورناه فِي الْقَوْلَيْنِ فالتعارض فِي مُوجب الْفِعْلَيْنِ كالتعارض فِي مُقْتَضى الْقَوْلَيْنِ وَلَا يرجع التَّعَارُض إِلَى ذاتي الْفِعْلَيْنِ، بل يرجع إِلَى المتلقى من الْبَيَان المنوط بهما، وَكَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي نَفسِي الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّعَارُض فِي الحكم الْمُسْتَفَاد من ظاهرهما، فَاعْلَم ذَلِك فِي تعَارض الْفِعْلَيْنِ.
فَأَما تعَارض الْفِعْل وَالْقَوْل فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن تعَارض الْفِعْل الْوَاقِع موقع الْبَيَان وَالْقَوْل ينزل منزلَة تعَارض الْقَوْلَيْنِ.
وَذهب بعض أهل الْأُصُول إِلَى ان القَوْل وَالْفِعْل إِذا اجْتمعَا فِي قضيتين متنافيتين فيعتصم بالْقَوْل دون الْفِعْل وَاعْتَلُّوا لذَلِك جشمة مِنْهَا أَنهم قَالُوا لَو أَخذنَا بِفِعْلِهِ كَانَ ذَلِك إِسْقَاطًا منا لقَوْله، وَلَو تمسكنا بقوله فيتخصص الْفِعْل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يكون ذَلِك إِسْقَاطًا للْفِعْل والتمسك بِمَا لَا يتَضَمَّن إسقاطهما وَلَا إِسْقَاط وَاحِد مِنْهُمَا أصلا اأولى من التَّمَسُّك بِمَا يُوجب إِسْقَاط أَحدهمَا من كل وَجه.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل فَإِن الْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي فعل وَاقع موقع الْبَيَان كَمَا أَن القَوْل وَاقع موقع الْبَيَان فَإِذا خصصتم الْفِعْل بِهِ فقد أسقطتم اقْتِضَاء بَيَانه ونزلتموه منزلَة الْفِعْل الْمُطلق، وَإِنَّمَا كلامنا فِي الَّذِي يَقع مُبينًا، فَتبين أَن استرواحهم إِلَى مَا لَا تَحْقِيق لَهُ.
فَإِن قَالُوا: القَوْل أولى من الْفِعْل لِأَنَّهُ بَيَانا لنَفسِهِ
وموضوعه، وَالْفِعْل إِنَّمَا يصير بَيَانا بالْقَوْل أَو بِسَبَب واقتضاء حَال، وَالَّذِي هُوَ بَيَان لنَفسِهِ أولى.
قُلْنَا: هَذَا سَاقِط من الْكَلَام فَإِن الْفِعْل وَإِن كَانَ إِنَّمَا يصير بَيَانا بِغَيْرِهِ فَإِذا صَار بَيَانا بِمَا يَقْتَضِي لَهُ ذَلِك، ينزل فِي الإنباء عَن الْبَيَان منزلَة م ابين بِنَفسِهِ، وَلم يبْق بَينهمَا تزايد فِي هَذِه الرُّتْبَة، وَهَذَا مِمَّا لَا يستريب فِيهِ مُحَقّق، ثمَّ نقُول رب لفظ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ حَتَّى تقترن بِهِ قَرَائِن دَالَّة فَهَلا قُلْتُمْ إِن القَوْل الَّذِي هُوَ وَصفه لَا يعتصم بِهِ إِذا عَارضه فعل، وَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا التَّفْصِيل، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
وَلَا يتمسكون بِشُبْهَة إِلَّا وَهِي تداني مَا أومينا إِلَيْهِ، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ إِيضَاح طَرِيق الدَّلِيل فِي الرَّد عَلَيْهِم، إِنَّا نقُول: إِذا وَقع الْفِعْل موقع الْبَيَان فيستقل بِنَفسِهِ وَلَو قدر مُفردا كالقول، فَإِذا اجْتمعَا وَلَا ترجح لأَحَدهمَا على الثَّانِي فِي حكم الْبَيَان الَّذِي فِيهِ التَّعَارُض فَلَا وَجه للتحكم بالتمسك بِأَحَدِهِمَا وَترك الآخر.

.باب الْكَلَام فِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بشريعة من قبله من الْأَنْبِيَاء قبل مبعثه؟ وَهل كَانَ متعبدا بشرائعهم بعد المبعث؟

اعْلَم، أسعدك الله، أَن الْبَاب يشْتَمل على طرفين، أحدهم: الْكَلَام فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث وَالثَّانِي: الْكَلَام فِي أَنه بعد مَا ابتعثه الله هَل كَانَ متعبدا بشرائع الْأَنْبِيَاء الَّذين درجوا قبله.
فَأَما الْكَلَام فِي الْفَصْل الأول فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه كَانَ على مِلَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه كَانَ على مِلَّة مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِمَا، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه على آخر الْملَل فِي زَمَنه وَهِي مِلَّة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِمَا أَجْمَعِينَ.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى التَّوَقُّف، ثمَّ الواقفية انقسموا فَمنهمْ من قَالَ: يعلم أَنه كَانَ متعبداً وَيجوز أَنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بِشَيْء قطعا من الشَّرَائِع قبل المبعث.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمَا صَار إِلَيْهِ جَمَاهِير الْمُتَكَلِّمين أَنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بِشَيْء قطعا، ثمَّ انقسموا فِي ذَلِك فَذهب طوائف الْمُعْتَزلَة إِلَى أَنا نستدرك ذَلِك عقلا ونحيل تعبده قبل الشَّرْع.
وَذهب عصبَة أهل الْحق إِلَى أَنه لَو تعبد قبل المبعث لجَاز بيد أَنه لم ينْعَقد وَثَبت عَنهُ ذَلِك سمعا، وَهَذَا مَا نرتضيه وننصره.
شُبْهَة الْمُخَالفين: فمما استدلوا بِهِ أَن قَالُوا كَانَت دَعْوَة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ عَامَّة مُخْتَصَّة بِزَمَان دون زمَان، وكل شَرِيعَة ثبتَتْ كَذَلِك متعبد بِهِ إِلَى زمَان والأشخاص،، وَلَا يسوغ ادِّعَاء رفضها عَن شخص بِعَيْنِه قبل ثُبُوت نَاسخ الشَّرْع الْمُتَقَدّم وَلم يكن ثَبت قبل مبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاسِخا لملة عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، فَيجب دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الابتعاث فِي الدعْوَة الْعَامَّة وَهَذَا أقوى شبه الْمُخَالفين قُلْنَا: لقد عظمتم الظينة وأطنبتم فِيمَا قُلْتُمْ وَمَا نطقتم إِلَّا بِمَا تنازعون فِيهِ، فَمن أَيْن لكم أَن دَعْوَة عِيسَى كَانَت عَامَّة؟ وَبِمَ تنكرون على من يَقُول أَن دَعوته كَانَت متخصصة بدهور مضبوطة؟ وَمَا الَّذِي أطْلعكُم على مَا قلتموه؟
فَإِن قيل: ظواهر الشَّرَائِع الْعُمُوم، قُلْنَا: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول لَا بل ظواهرها الِاخْتِصَاص بالمخاطبين المعاصرين للرسل، وَإِنَّمَا نعدى عَنْهُم بِالدَّلِيلِ فتقابل الدعوتان، وَلزِمَ التَّوَقُّف إِلَى مورد الْبَيَان.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لم يثبت عندنَا أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيع ولد آدم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا ثَبت الْبعْثَة إِلَى الثقلَيْن فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نقُول نَحن نجوز أَن تندرس فِي سُقُوط تِلْكَ الشَّرِيعَة، وَهَكَذَا كَانَ الدّين فِي وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَت الْأَدْيَان مبدلة، والكتب مُغيرَة، وَلم يبْق من يوثق بهم، حَتَّى قَالَ أهل التواريخ: لم يبْق من يقوم بِالتَّوْرَاةِ بعد عُزَيْر، وَلم يبْق من يقوم بالإنجيل بعد مرخيا.
فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الشَّرِيعَة مُرْتَفعَة فِي زمن الفترة لانحسام أَبْوَاب التَّوَصُّل إِلَى دركها، و: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا}.
فَإِن قيل: افتجوزون مثل ذَلِك فِي شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قيل: لَا نجوز ذَلِك لإِجْمَاع الْأمة على بَقَاء الدّين إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور، وَلَوْلَا الْإِجْمَاع لجوزناه، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
وَمن عمدهم أَن قَالُوا: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل المبعث محافظا على الْعِبَادَات، متسرعا إِلَى القربات، فَكَانَ يحجّ مَعَ الحجيج ويحضر المشاعر والمشاهد ويتجنب الْمُحرمَات ويستبيح من المحللات مَا لم يدْرك حلّه إِلَّا بِالشَّرْعِ كذبح الْبَهَائِم وإتعابها بالركوب ونحوهان وكل مَا ذَكرْنَاهُ دلَالَة قَاطِعَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعبد الله على بعض الْأَدْيَان والشرائع.
قُلْنَا: حمله على مَا أوميتم إِلَيْهِ آحَاد لَا يثبت بِمِثْلِهَا الْقطع، وَنحن فِي مَسْأَلَة قَطْعِيَّة على أَن مَا استروحتم إِلَيْهِ من ذبح الْبَهَائِم وَنَحْوهَا فلسنا نسلم أَنَّهَا محظورة عقلا، وَإِنَّمَا بنيتم مَا قلتموه تَقْديرا مِنْكُم أَنَّهَا على الْحَظْر إِلَى أَن تُبَاح بِدلَالَة الشَّرْع، وَأما مَا نقلتموه من حجَّة فَلَيْسَ فِيهِ معتصم إِن صَحَّ، فَإِن الَّذين كَانُوا لَا يَقُولُونَ بِشَيْء من الْملَل، وَلَا يعتصمون بشريعة من الْأَنْبِيَاء من الْعَرَب العاربة مازالوا يتيممون ويتبركون بِالْبَيْتِ الْمحرم لَا عَن مِلَّة اتبعوها وَلَكِن توارثوها صاغرا عَن كَابر، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَى جَحده فِي درب الْعَرَب.
وكل مَا ذَكرْنَاهُ نقدمه لحد النّظر، وَأَن كل مَا قَالُوهُ يَنْقَسِم إِلَى مَالا يَصح وَإِلَى مَا نقل آحادا، وَلَا يسوغ التشبث بِمثلِهِ فِي العقليات.
فَإِن قَالُوا: مَا زَالَ واصلا للرحم فِي الْكَلم، متجنبا عَن الْكَبَائِر واللمم، وكل ذَلِك من مخاديل اتِّبَاع شرائع الْأُمَم.
قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم وتوصيل إِلَى مَا يطْلب فِيهِ الْقطع بالمخيل والحسبان فَأَما صلَة الرَّحِم فالطبائع مجبولة عَلَيْهَا. ومنكرو الصَّانِع يغلب ذَلِك فيهم، وَأما توقي الْفَوَاحِش فَلَا يدل على اتِّبَاع الْملَل أَيْضا، فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
وَالدَّلِيل على مَا ارتضيناه أَن نقُول: قد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخالط أصحابه ويمازح عثرته وَلم يُؤثر عَنهُ الانتماء إِلَى مَذْهَب والاعتزاء إِلَى مطلبه فِي الشَّرَائِع، وَمثله مِمَّن لَا يخفى فِي الْعَاد ة ذَلِك مِنْهُ مَعَ ظُهُور شَأْنه، ووضوح أمره، وَلَا يبديها، وَلَا يسايل عَنْهَا، وَلما ابتعثه الله لم يُؤثر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل التنبي، وَكَانَ ينبىء عَن أنبائه قبل الْبعْثَة وَصمت على مِلَّة كَانَ يتبعهَا، وَشَرِيعَة كَانَ يعتقدها، وَكَانَ لَا يسوغ الكتمان، وَيعلم فِي مجاري الْعَادَات أَن مثل ذَلِك لَا يسوغ تَقْدِير خفائه، وَلَو كَانَ مَعَ اسْتِمْرَار الْعَادة وَعدم انخراقها، وجاحد ذَلِك ينزل منزلَة جَاحد لسبيل الضروريات، ومصدق الْمخبر عَن تصور التُّجَّار وغيض الْأَنْهَار، وتقلب الحجار عَن صفاتها إِلَى نعوت التبر والجواهر.
وَالَّذِي يعتضد الدّلَالَة بِهِ أَن الشَّرَائِع لَا تثبت عقلا، وَإِنَّمَا تثبت سمعا فَلَا سَبِيل إِلَى تثبيت شرع فِي حَقه عقلا، وَلَو ثَبت سمعا لنقل فِي اطراد الْعَادة، وَلَا يعقل فِي مجاري الْعَادَات انْقِرَاض الدهور والأعصار على مثله وَهُوَ يعْتَقد مِلَّة من الْملَل.
فَأَما من زعم أَنه لَا يسوغ أَن يكون متعبدا بِملَّة من الْملَل قبل المبعث عقلا فقد استروح إِلَى مَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَقَالَ: لَو قدر ذَلِك لأفضى إِلَى التنفير عَنهُ والحط من قدره وانطلاق أَلْسِنَة العندة من ذَوي الْملَل فِيهِ، فَلَو كَانَ على دين مُوسَى لقالت الْيَهُود: كَانَ مُتَابعًا لنا، فِي هذيان طَوِيل، وَهَذَا واه لَا تَحْقِيق وَرَاءه فَإنَّا لَا نستبعد أَن تثبت فِي زمن النُّبُوَّة صِفَات يناط بهَا نفور الجاحدين، وَإِنَّمَا بدر هَذَا الْكَلَام بِنَاء على الصّلاح والأصلح، وسنستقصي الْكَلَام فِيهِ فِي الديانَات إِن شَاءَ الله فَهَذَا هوالكلام فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ قبل المبعث.
فَأَما الْكَلَام فِيمَا كَانَ بعد المبعث فَاعْلَم أَن أحدا لَا يستبعد أَن يثبت فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحقّ مبتعثه مثل الْأَحْكَام الثَّابِتَة فِي الْملَل السَّابِقَة بأوامر تتجدد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَلَا يستبعد فِي الْعقل أَن يجب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّبَاع الْملَل فِي بعض الْأَحْكَام عقلا، وَقد استبعد ذَلِك بعد المبعث من استبعده قبله، وَبينا أَن بِنَاء هَذَا الْكَلَام على اصل فَاسد فِي التَّعْدِيل والتجوير فَإِذا أحطت علما بِجَوَاز ذَلِك عقلا عرفت جَوَاز ثُبُوت مثل تِلْكَ الْأَحْكَام عقلا وسمعا.
فَلَو قَالَ: قَائِل فَإِذا جوزتم إِيجَاب الِاتِّبَاع عَلَيْهِ فَمَا قَضِيَّة الشَّرْع فخبرونا عَنْهَا، قُلْنَا: هَذَا موقع الْخلاف، فَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى انه مُخَاطب مَعَ أمته بِاتِّبَاع الشَّرَائِع السَّابِقَة، وَزَعَمُوا أَن كل مَا نسخ مِنْهَا فقد ارتفض الحكم فِيهِ وَمَا لم يثبت فِيهِ نسخ فَعَلَيهِ وعَلى أمته الِاتِّبَاع فِيهِ.
وَأما الَّذِي نرتضيه أَنه مَا أوجب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعَ الْأَوَّلين وَإِنَّمَا أوجب عَلَيْهِ مَا أوجب بأوامر متجددة ثمَّ مِمَّا أوجب عَلَيْهِ مَا وَقع مماثلا لأحكام الشَّرَائِع السَّابِقَة، وَمِنْهَا مَا وَقع مُخَالفا لَهَا.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى التَّوَقُّف.
فاستدل من صَار إِلَى انه مَأْمُور بِاتِّبَاع السالفين بآي من كتاب الله تَعَالَى مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا}.
وَقَوله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وَحَتَّى بِهِ نوحًا}.
وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النبنوت} وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زمرتهم، فَدلَّ ظَاهر الْآيَة على حكمه بِالتَّوْرَاةِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه}
وَمِمَّا استروحوا إِلَيْهِ قَوْله: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} الْآيَة، قَالُوا: حكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمضمون الْآيَة، وَإِن لم تكن مصرحة بتخصيص ذَلِك الحكم بشريعة بل هِيَ مَبْنِيَّة عَن أَحْكَام الْكتب السَّابِقَة، وَمِمَّا استدلوا بِهِ قصَّة الْيَهُودِيين الَّذين رجمهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وراجع فِي أَمرهمَا التَّوْرَاة.
وَمِمَّا يستدلون بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده}
فَنَقُول: لَا معتصم لكم فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه أما قَوْله تَعَالَى: {أَن ابتع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا}
فَهَذَا حد الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، فَإِنَّهُ جدد عَلَيْهِ الْأَمر، وَنحن لَا نستبعد أَن يثبت فِي حَقه بِأَمْر مُجَدد مثل مَا ثَبت فِي حق من تقدمه.
فَإِن قيل: فَلم سَمَّاهُ اتبَاعا؟
قُلْنَا: لم نأمل الفعلان وتشاكلا أَتْبَاعه بالاتباع وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان يتبع فلَانا فِي سجيته، وَالْمرَاد بِهِ أَنه يفعل مثل فعله، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه لم ينْقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتبع شرائع إِبْرَاهِيم، ويتحسس عَن أَحْكَامه وموجبات مِلَّته، وَلَو كَانَ الْمُضِيّ بالاتباع فِي الْآيَة مَا قلتموه لبذل كنه مجهوده فِي العثور على مِلَّة جده صلوَات الله عَلَيْهِمَا.
ثمَّ نقُول: إِنَّمَا الْمُضِيّ بالاتباع مَا صَار إِلَيْهِ اهل التَّفْسِير وأئمة التَّأْوِيل، وَهُوَ تجنب الْإِشْرَاك وإيثار التَّوْحِيد وَهُوَ الْمُضِيّ بقوله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا سفه تنفسه}.
فَإِن قَالُوا: الستم تَقولُونَ أَن معرفَة الرب جلت قدرته لَا تجب عقلا؟ وَإِنَّمَا تجب سمعا؟ فَإِذا ثَبت وجوب الِاتِّبَاع فِي معرفَة الله تَعَالَى فَهُوَ الْمَقْصد.
قُلْنَا: مَا أوجب الله تَعَالَى على نبيه التَّوْحِيد إِلَّا ابْتِدَاء، ثمَّ نبه على أَنه كلفه مثل مَا كلف من قبله وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي الِاتِّبَاع، وبقريب من ذَلِك نتكلم عَن قَوْله: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا}
وَأقوى مَا يتَمَسَّك بِهِ فِي إبْطَال استدلالاتهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بحث عَن دين نوح قطّ، وَلَو كَانَ مَأْمُورا بأتباع شَرِيعَته لبحث عنهاه ثمَّ الْمَعْنى بِالْوَصِيَّةِ النَّهْي عَن الْإِشْرَاك كَمَا قدمْنَاهُ.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده}، فَالْمُرَاد بِهِ افْعَل مثل فعلهم واعتقد فِي التَّوْحِيد مثل مَا اعتقدوه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هِيَ أَنه جمع الْأَنْبِيَاء فِي هَذِه الْجُمْلَة، وَنحن نعلم جَمِيعًا أَنهم لَا يَجْتَمعُونَ فِي قَضِيَّة الشَّرِيعَة، وَالَّذِي اجْتَمعُوا عَلَيْهِ هُوَ التَّوْحِيد وَمَعْرِفَة الله تَعَالَى.
فَإِن قيل: فلئن استقام لكم ذَلِك فِي هَذِه الْآيَة الَّتِي صيغتها تَعْمِيم فِي أَحْوَال الْأَنْبِيَاء، فَلَا يَسْتَقِيم فِي الْآيَة المنطوية على تَخْصِيص إِبْرَاهِيم بالاتباع وَنحن نعلم أَن التَّوْحِيد لَا يتخصص بِهِ، فَتعين حمل هَذِه الْآيَة على الشَّرِيعَة الَّتِي اخْتصّت بإبراهيم صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه كَمَا خصص إِبْرَاهِيم فَكَذَلِك خصص نوحًا وَنحن نعلم اخْتِلَاف ملتيهما، واستحالة الْجمع بَينهمَا جملَة، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لم يرد اتِّبَاع الشَّرِيعَة على أَنه إِنَّمَا يخصص من خصص بِالذكر تكريما لَهُ وتعظيما وتشريفا، وَهَذَا كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثقهم ومنك وَمن نوح} مَعَ اندارجهما فِي اسْم النَّبِيين، ونظائر ذَلِك يكثر فِي الْكتاب الْعَزِيز.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ}، فَلم يستتب الِاسْتِدْلَال بهَا إِلَّا مَعَ تَسْلِيم القَوْل بِالْعُمُومِ، وَإِذا نازعناهم فِي ذَلِك سقط استدلالهم على أَنه بصدد التَّخْصِيص بالأدلة القاطعة.
وَأما قَوْلهم: أَن الْقصاص فِي الْأَطْرَاف مَنْصُوص فِي قَوْله:
{وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا}، وَهُوَ إِخْبَار عَن كتب الْأَوَّلين، قُلْنَا: فِي الْقرَان ظواهر دَالَّة على ثُبُوت الْقصاص على الْجُمْلَة.
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص}
وَقَوله: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ}، {وجزؤا سَيِّئَة سَيِّئَة}.
فَلَعَلَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا قَالَ عَن بعض هَذِه الظَّوَاهِر، أَو دلَالَة تثبت لَدَيْهِ من اجْتِهَاد أَو وَحي خصص بِهِ وإلهام، وطرق مدارك الْحُكَّام شَتَّى.
وَأما قصَّة الْيَهُودِيين فَمَا رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِدِينِهِ، وَأما بَحثه عَن التَّوْرَاة فَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْيَهُود زعمت أَن التَّوْرَاة لَيْسَ فِيهَا رجم، وَلذَلِك فضحهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتبين لضعفاءهم تلبيس أَحْبَارهم عَلَيْهِم فِي تَغْيِير لقب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا وَجه الِانْفِصَال عَمَّا استروحوا إِلَيْهِ.
وَالدَّلِيل على صِحَة مَا صرنا إِلَيْهِ أَن نقُول: إِجْمَاع الْمُسلمين حجَّة قَاطِعَة وسنثبته على منكريه، وَقد تتبعنا الْأَعْصَار فَلم نجد أهل الْعَصْر الأول يراجعون أَحْكَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى وقضايا التَّوْرَاة، وَكَذَلِكَ لم نجد التَّابِعين، وتابعي التَّابِعين يفزعون فِي المعضلات وَلَا المشكدات إِلَى التَّوْرَاة وَغَيرهَا من الْكتب مَعَ تقَابل الأمارات، وَثُبُوت الْإِشْكَال، حَتَّى كَانُوا يجتزون بِقِيَاس الشّبَه وطرق التَّرْجِيح والتلويح، فَلَو كُنَّا مخاطبين بشرائع من قبلنَا لبحث الْعلمَاء عَنْهَا كَمَا بحثوا عَن سَائِر مصَادر الشَّرِيعَة ومواردها.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا لم يبحثوا عَن الْكتب السالفة لِأَنَّهُ لم يكن إِلَيْهَا سَبِيل مُسْتَقِيم فَإِنَّهَا كَانَت مبدلة مُغيرَة، وَلم يبْق من نقلتها من يوثق بهم.
قيل: الْجمع بَين هَذَا السُّؤَال وَبَين الْمصير إِلَى الْأَخْذ بشرع من قبلنَا تَصْرِيح بالتناقض فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يُكَلف شرعا ويحسم السَّبِيل إِلَى إِدْرَاكه، فَإِن ذَلِك يلْتَحق بتكليف الْمحَال.
فَإِن قيل: مَا كلفنا من شرع من قبلنَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُوحى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويتبين لَهُ مَضْمُون الْكتب السالفة، وَلم يبْق لنا مرجع إِلَى الْكتب بعد أَن اسْتَأْثر الله بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَانْقِطَاع طرق الْإِعْلَام بِالْوَحْي والإلهام.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِحَالَة جَهَالَة على جَهَالَة، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أسْند حكما من الْأَحْكَام إِلَى الشَّرَائِع السالفة، على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعتصم عَن الكتمان وخائنة الْأَعْين، فَلَو كَانَ مَا قَالُوهُ سديدا لأشبه أَن يعلمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أوجب عَلَيْهِ اتِّبَاع الْكتب والشرائع السالفة، فَلَمَّا نقل الْأَوَامِر الْمُجَرَّدَة وَلم يسندها إِلَى سَائِر الْملَل ثَبت أَن الشَّرِيعَة تقررت بتجدد اتِّصَال الْأَوَامِر بالمكلفين على أَنا نقُول للخصوم وَقد سلمتم مُعظم الْمَسْأَلَة لما قُلْتُمْ إننا لَا نكلف إِلَّا التَّوَصُّل إِلَى حكم من قبلنَا، وَمَا نقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَحْكَام غير مُسندَة إِلَى الشَّرَائِع الْمُتَقَدّمَة، فَلَا نقُول من أَحْكَام الْأَوَائِل مَا نقلت فِي حَادِثَة بأننا مخاطبون فِيهَا بشرع من قبلنَا، ثمَّ نقُول من أَحْكَام الْأَوَائِل مَا نقلت إِلَيْنَا تواترا نقلا يَقع بِهِ الْعلم، فَهَلا أَخذ أهل الْأَعْصَار بِهِ؟ أَو نقُول من أهل الْكتاب من أسلم وَحسن إِسْلَامه وَبلغ من الْأَمَانَة والثقة أَعلَى الرُّتْبَة كَعبد الله بن سَلام وَكَعب وَغَيرهمَا، فَهَلا رَجَعَ أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قَوْلهمَا فِي الْأَخْبَار عَن التَّوْرَاة؟
فَإِن قيل: لِأَنَّهَا كَانَت مُغيرَة.
قُلْنَا: فَهَلا وثقوا بقوله فِي نقل مَا لَيْسَ بمبدل؟
ثمَّ الْأَخْبَار تَنْقَسِم إِلَى الصَّحِيح والسقيم، وَلَا يُوجب انقسامها رد أَخْبَار الثِّقَات، وَإِن كُنَّا نعلم أَن مَا يقدر من التَّدْلِيس، والتلبيس، وضروب التحريف، وضروب الْمُتُون بَعْضهَا بِبَعْض، وَوضع الْأَخْبَار على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من التحريف فِي الْكتب، ثمَّ لم يُوجب رد أَخْبَار الثِّقَات، وَإِن كُنَّا نعلم، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن يبْنى هَذَا الطّرف على الطّرف الأول وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا بشرائع من قبله قبل المبعث، ثمَّ إِذا ثَبت ذَلِك فيترتب عَلَيْهِ لَا محَالة أَن الْأَحْكَام لم تثبت بعد المبعث إِلَّا باتصال الْأَوَامِر على التَّجْدِيد.
وَقد أَوْمَأ الْعلمَاء إِلَى طرق فِي الِاسْتِدْلَال لَا تقوى، وَنحن نؤمي إِلَيْهَا. مِنْهَا: التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ: بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ فَقَالَ: بِكِتَاب الله، ثمَّ قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: أجتهد رَأْيِي، فصوبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأثْنى عَلَيْهِ خيرا، وَلم يذكر معَاذ فِي ذكر كتب الْأَوَّلين، وَهَذَا من أَخْبَار الْآحَاد وَفِي التَّمَسُّك بِهِ نظر.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَن قَالُوا: اتّفق الْأمة على أَن جملَة الْأَحْكَام الثَّابِتَة بعد مبعث الرَّسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضَافَة إِلَى شَرِيعَته، وَكلهَا تقدم مِنْهَا. فَلَو كَانَ مِنْهَا مَا يتبع فِيهِ من سبق لوَجَبَ إِضَافَة ذَلِك الْقدر إِلَى شرع من قبلنَا وَهَذَا فِيهِ نظر، وللخصم أَن يَقُول: إِنَّمَا أضيف الْكل إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أَحْيَاهَا وَبَينهَا على فَتْرَة، ودروس من الْحق، والتمسك بِالْإِضَافَة تمسك بِمُجَرَّد اسْم هُوَ عرضة التَّأْوِيل.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا}، وَزَعَمُوا أَن هَذَا يدل على أختصاصه بجملة الشَّرِيعَة، وَفِي هَذَا نظر أَيْضا فَإِن اخْتِصَاصه بِبَعْض الْأَحْكَام يتَحَقَّق فِيهِ مَضْمُون الْآيَة، وَلَيْسَ من شَرط انطلاق اسْم الشَّرِيعَة أَن يتَنَاوَل كل الْأَحْكَام وَالْأَخْبَار.

.القَوْل فِي حد الْخَبَر وَحَقِيقَته:

اعْلَم، وفقك الله، أَن الْأَخْبَار من أعظم أصُول الشَّرَائِع، وينتمي إِلَيْهَا مُعظم الْكَلَام فِي الْملَل، وتصرفات الْخلق، فَأول مَا نبدأ بِذكرِهِ فِيهَا الإنباء عَن حد الْخَبَر وَحَقِيقَته.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا حَقِيقَة الْخَبَر.؟
قيل: هُوَ الَّذِي يَتَّصِف بِكَوْنِهِ صدقا أَو كذبا. أَو هُوَ الَّذِي يدْخلهُ الصدْق أَو الْكَذِب.
وأرباب اللُّغَات، وَكثير من طوائف الْأُصُولِيِّينَ يطلقون مَا ذَكرْنَاهُ مَعَ إخلال فِيهِ، فَيَقُولُونَ: الْخَبَر مَا يدْخلهُ الصدْق، وَالْكذب، وَهَذَا مَدْخُول، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اجْتِمَاع الوصفين فِي كل خبر، وَهَذَا محَال، فَإِن كَانَ صدقا لَا يتَصَوَّر أَن يكون كذبا على الْوَجْه الَّذِي وَقع صدقا، وَكَذَلِكَ على الضِّدّ فِيهِ.
وَيبين ذَلِك أَن خبر الله لَا يجوز أَن يكون كذبا، وخبرك عَن الوحدانية والمعلومات الثَّابِتَة ضَرُورَة أَو دَلِيلا لَا يجوز أَن يَقع كذبا، وَكَذَلِكَ إخبارك عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه وانقلاب الْحَقَائِق، وضروب المستحيلات لَا يتَصَوَّر أَن يَقع صدقا.
فَالْأَحْسَن أَن تَقول الْخَبَر مَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ صدقا أَو كذبا.
فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْخَبَر، فَلم كَانَ الْخَبَر خَبرا؟
قُلْنَا: هَذَا مَا لَا يُعلل، كَمَا لَا يُعلل سَائِر أَوْصَاف الْأَجْنَاس، فَلَا يُقَال لم كَانَ الْعلم علما، والسواد سواداً والجوهر جوهرا.
وَطَرِيق جوابك إِذا سَأَلت عَن مثل هَذَا أَن تَقول: إِنَّمَا كَانَ الْخَبَر خَبرا لنَفسِهِ، وتعني بذلك أَن نَفسه خَبرا، لَا لعِلَّة، وَلَا تَعْنِي بِهِ تَعْلِيل كَونه خَبرا لنَفسِهِ.
ثمَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَن تحيط بِهِ علما أَن تعلم أَن الْخَبَر من أَقسَام الْكَلَام، وَهُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ كَمَا قدمنَا فِي الْأَوَامِر وَالنَّهْي، والعبارات دلالات عَلَيْهِ، كَمَا تدل عَلَيْهِ الرموز والإشارات والكتبة وضروب الأمارات الَّتِي وَقع فِيهَا التَّوَاضُع على نصبها أَمَارَات، ثمَّ رُبمَا يُطلق بعض أصحابنَا اسْم الْكَلَام حَقِيقَة على الْعبارَات، وَمِنْهُم من لم يُطلق اسْم الْكَلَام حَقِيقَة عَلَيْهَا، وَهَذَا يستقصي فِي الْكَلَام.